لم أقف أمام طلابي وكأن سطل ماء بارد قد سقط على رأسي، إذ أنني كنت أعرف وأنتظر إجاباتهم، هل رأيتم وقرأتم عن رسومات ناجي العلي؟ لا، هل سمعتم حكاية قلعة شقيف؟ لا، هل قرأتم عن بطولة سامي الأنصاري؟ لا، هل تعرفون قائداً فلسطينياً عظيماً اسمه إبراهيم أبو دية؟ لا. هل سمعتم عن بطولة وإعدام محمد جمجوم وعطا حجازي وفؤاد الزير، لا، لكن طالباً واحداً رفع إصبعه متحمساً: بعرفهم من الأغنية أستاذ.
كان الهدف من أسئلتي هو انتزاع مزيد من التحسر والغضب وجلد الذات والحيرة، من هؤلاء الضحايا، مزيد من تشجيع نفسي على عمل شيء حتى لو كان في نطاق صفي بعدد طلابه القليلين، هذا جيل ضائع، يعرف أن بلاده محتلة ويشعر بغضب كثير تجاه أعداء بلاده، ومستعد للتضحية من أجلها، لكنه لا يعرف كيف يغضب، لا يجد من يقول له كيف ولماذا صرنا شعبا محتلاً؟ وما هي الحركة الصهيونية؟ وكيف تسللت من شقوق تشتتنا إلى حياتنا، ومن هم صانعوها الحقيقون؟ وما علاقتها بالاستعمار، والدين، وكيف انتصرت علينا، ولماذا لم تدافع الدول العربية عن فلسطين كما يجب؟ هذا جيل لا يعرف تاريخ غضبات شعبه ولا يعرف رموز هذه الغضبات، هذا جيل البطل الوحيد في عالمه هو أبو عمار أو أحمد ياسين، جيل بالكاد يعرف تفاصيل انتفاضة شعبه الأولى عام 1987 والتي مات فيها عمه واعتقل أبوه وجرح خاله، فكيف سيعرف عن ثورة 36؟
قلت لنفسي، عليّ أن أفعل شيئا ما، فرغم كل هذه العتمة وكل هذا الضياع، ربما يكون مفيداً أن أقوم بجهد فردي لإضاءة وتوسيع أفقهم ووضع انفعالاتهم الثورية النقية في سياق تاريخهم الذي يمتلئ بنماذج عظيمة من الفدائيين، ولإكسابهم هذا الاعتزاز بماضيهم الوطني المشرف، قررت أن أحكي لهم عن بطولات فدائيينا الشهداء في قلعة شقيف، أحضرتهم إلى قاعة كبيرة، وهيأتهم إلى حكايات أبطالنا الشهداء الذين قاتلوا حتى الطلقة الأخيرة دفاعاً عن فلسطين ولبنان، حتى هذه اللحظة لم أكن أعرف أن كارثة تنتظرني، كنت أظن ساذجاً أن الشبكة العنكبوتية تعج بالمقابلات المصورة والشهادات والأفلام والبرامج عن أبطال القلعة الثلاثة والثلاثين، الذين رفضوا الاستسلام، وقضوا أبطال واجب وحلم. رحت أمام طلابي أتصفح الشبكة بحثاً عن فيلم، يتسع لوقت حصة مدرسية، فيلم فلسطيني أو عربي أو أجنبي يحكي حكاية صمودنا هناك، وضعت عناوين كثيرة للبحث عبر اليوتيوب، وكان طلابي يراقبون توتري، ويحاولون مساعدتي باقتراحات عناوين: (صمود قلعة شقيف، شهادات من قلعة شقيف، ماذا حدث بالضبط في قلعة شقيف؟ ...إلخ).
برنامج وثائقي واحد كان يتكرر كلما وضعت اسم القلعة، كنت أحاول تجنبه بلا جدوى، إلى أن انتبه طالب: أستاذ هاي برنامج عن قلعة شقيف ليش بتتجاوزه؟ ارتبكت، لم أرد عليه، وحين ألح طالب آخر لمعرفة السبب غمغمت بإجابة، وتمنيت في لحظتها أن تقطع الكهرباء عن المدرسة أو أن يُقرع جرس الحصة أو أن أصاب بسكتة قلبية خفيفة، حتى لا أضطر لمشاهدة برنامج القناة العاشرة الإسرائيلية وهو البرنامج الوحيد الذي يتحدث عن صمود قلعة شقيف من وجهة نظر صهيونية طبعاً، بشهادات من ضباط وعسكريين شاركوا في اقتحامها بعد صمود أسطوري يعترفون به.
في الشبكة كلها لا برنامج وثائقياً فلسطينياً يحكي قصة القلعة، قليلون جداً من يعرفون أسماء أبطالها وقلة جداً تعرف حكاياتهم، بعد أكثر من ثلاثة عقود على بطولة القلعة، ما الذي منع إعلام منظمة التحرير ودائرة السينما والفنون فيها من عمل أفلام درامية ووثائقية عن القلعة؟ من الذي يمنع إعلام السلطة الفلسطينية الآن وفصائل المنظمة من الاحتفاء بذكرى صمود واستشهاد أبطال القلعة؟ أحاول أن أبحث عن إجابة فلا أجد سوى الكسل واللامسؤولية واللاانتماء.
المفارقة العجيبة أن أعداءنا اختلقوا أسطورة صمود أمام الجيش الروماني في قلعة أسموها (مسادا) وحتى هذه اللحظة يستمدون من هذا الصمود الكاذب، معنى بقائهم، بينما لدينا نحن صمود حقيقي في قلعة حقيقية في تاريخ حقيقي دون أن يعني لنا ذلك أي معنى.