الوَعْيُ أساسُ التَّطَوّرِ الإنْسَانيّ ، والمَعْرِفةُ أداةُ تَشَكُّلِهِ وَوسيلةُ تَنْمِيَتِه . تَرى الحاضر باعْتِبارِهِ حَلقَة في سِلْسِلةٍ زَمَنيَّةٍ مُتَّصِلة ، ومرحلة وُسْطى بين الماضي والمُسْتَقبل ، وتُدْرك بالقِراءة المُتفَحِّصَة لِصَيْرورة التّاريخ أنَّ وَقائِعَه ليْست قَدَراً مَحْتوماً ، وأنّ اخْتِلافَ أحْوال الأمُمِ والشّعوب إنما هو في الأساس نتاجٌ لِفِعْلٍها الهادِف أو لانْعِدامِه .
والمَعْرِفَة التي نَقْصِد ويَحْتاجُها الحَراك الشّبابيّ الواعِد ، هي تلك القادِرَة على مُساعَدَتِه في فَهْمِ واقِعِه المأزووم ومَعْرِفَة أسباب تَشَكُّلِه بِمَوْضوعِيّة ، فلا تُغْفِل الدّوْرَ الرّئيس للاحتلال الاستيطاني الصّهيوني وداعميه في الغرب الاسْتِعْماري عموما، والأمريكي خصوصاً ، ولا تتغافل عن الأسْباب الذّاتِيّة والعوامل الدّاخليّة الفلسطينيّة التي تَتَحَمَّل مَسؤولِيّةً مُوازِية . بل تَعْتَمِد المَنْهَج العِلمِيّ في تفسير الوَقائِع ، دون تَعَسَّفٍ في تَحْميلِ الذّات ما يفوق الحَقيقة فَيُفْضي إلى اليَأس والإحباط ، أو مُغالاةٍ في تَحْميل الخارج ما يَتَجاوز الواقِع فيَقود إلى العَجْزِ والقُنوط .
وكما سَبَقَت الإشارة في المَقال السّابق الذي تناول الإيجابيّات المُهِمَّة التي حقَّقَتها الأجيال الفلسطينيّة المُتعاقِبَة ويتَوَجّب حِمايتها وتطويرها والبِناء عَلَيْها . فإنّ هذا المقال وما سيليه سيُسَلِّط الضّوء على مَكامِنِ الخلل الذّاتي الفلسطيني التي تسْتَوْجِب جُلَّ الاهتمام ، فَيُحاول تحديد بُنْيَتِها الدّاخِلِيّة ، والبحث في أسبابِ وظروف تَشَكُّلِها، والتَّعَرُّفِ على مَكْنونات المَنْظومة الفِكْرِيّة وتَرْكيبة القُوى الرّئيسة المُتَسَبِّبة بها ، وتبَيُّن مَصَالِحِها وأهدافها ، وفهم صِيَغِ وآليّات تفاعُلِها داخِلِيّاً وخارِجِيّاً بُغْيَة مُساعدة الشّبابِ الواعِد على اسْتنباط مُتطلبات وطُرُقِ تَفْكيكِها ، وتَحْديد سُبل وَوَسائل إعادة تَرْكيبِ مَنْظومةٍ وَطنيّةٍ جَديدةٍ مُؤهّلة قادرة عَلى خَلق وَقائِع جَديدةٍ مُسْتهدفة ، تُؤسِّس لنهوضٍ فلسطينيٍّ شامِلٍ وتفتح الآفاق لصُنْعِ المُسْتَقْبَل المَرْغوبْ. وعِندما يَعْتَرِفُ جيلنا المُخَضْرَم بِدَوْرِه في اخْتلال الواقِع الفلسطيني ويُطلع الشَّباب الفتِيّ على حَصادِ تجاربِه ويَسْعى إلى تَبْصيرَه بأخْطائِه وِتَجاربه الفاشلة ، فإنّه لا يُمارِس جَلْداً للذّات كما يَحْلو للسّاعين للتَّحَلّل مِن المَسؤولِيّة وَصْف أيّ مَسْعى للنَّقْد الذّاتي المُسْتَحَقّ الذي تأخَّرَ كثيراً ، بل يقوم بواجِبهِ الوطنيّ والأخلاقيّ ويُطَبِّق مَبْدَءاً رئيساً لِثَوْرَتِه الفلسطينيّة المُعاصِرَة جرى تَغْييبه على مدى عُقود بِذَريعة التّآمُرِ الخارِجي وعَدَمِ جواز كَشف العَوْرات ، رَغْمَ أنَّ العَدُوّ يَعْرِفُها ، رُبَما أكثر مِنّا جميعاً ، ما تسَبَّب في تَراكُم الإخْفاقات وتعَثُّرِ المَشْروع الوطني التَّحَرّري وارتفاعِ كُلْفةِ تَحْقيقه .
وعِنْدَما يُصارح جيلنا المُخَضْرم الشّباب السّاعي إلى التَّغيير بأسبابِ إخفاقاتِهِ وخيباتِه، فإنّ ذلك لا يَمَسّ بِتَاريخِه النِّضالي ولا يَنْتَقِص من هيبتِه في عُيون أبنائِه ، لأنّه يَثِق بِوَعْيِهم وإدراكِهِم بأنَّ البشَرَ خطّاؤون ، وبأنَّ التّاريخ الإنسانيّ ، تبعاً لِذلك، لا يَسير بِحَرَكَةٍ مُستقيمة ، وبأنَّ عوامل كثيرةٍ موضوعِيَّة وذاتِيّة تَتَسَبّب في تَذَبْذبه صُعوداً وهُبوطا . ولأنّهم يَعْرِفون ، أيضاً ، بأنَّ جيلنا المُخَضْرم ، رغم أخْطائِه وخطاياه ، قد ناضل وقَدّم آلاف الشّهداء والجرحى والأسرى خلال مسيرته النِّضاليّة الطّويلة، وجاهد طَويلا لِتَصْحيح حَرَكَةِ التّاريخ الفلسطيني بعد تَمَكَّن الغُزاة الصّهاينة من حَرْفِ اتِّجاهِه ، واجْتَهَد كثيراً من أجل تصْويبِ مَسارِه والحِفاظ على اتِّجاهِه التَّصاعُدي .
وإذ يُحاول جيلنا المُخَضْرَم تبصير الجيلِ الفلسطينيّ الجَديد بالأسباب والسُّلوكِيّات الفلسطينيّة التي أفضت إلى الإخْفاقات ، فإنّما يستَكْمِل دَوْرَه التّاريخيّ ويفي باسْتِحقاقٍ متأخِّرٍللشّبابِ الفلسطينيّ ،عِبْرَ تَنْبيهِهِ إلى مخاطراستمرارالسُّلوكِيّات الخاطئة وإطْلاعِه على تَداعِياتِها المُدَمِّرَة ، لمُساعَدِتِه في تَصْويب المَسار ودَعْمِ حَراكِه للتّأسيس لِمُسْتَقْبَلٍ فلسطينيٍّ مُغاير .
أوَّلُ أخْطاء جيلنا التي تَرقى إلى مُستوى الخطايا ، إسهامه ، بِدَعوى الواقِعِيَّة السِّياسِيّة ، في تَشْويه الوَعْي الجَمْعي الفلسطيني والعربي والدّولي مُنْذ ضُلوعه في مُهادَنة الحَرَكَة الاستعماريّة الاستيطانيّة الصّهيونيّة العُنْصُرِيّة ، ومُشارَكَتِه في التَّرْويج لإمْكانيّة التَّوَصّل إلى حُلولٍ وسطى مع الكيان الاسْتِعْماري الاسْتيطاني الصّهيوني ، وموافقته على اقتسام الوطن مع مُحْتَلّيه ، وتجاهله ، بذلك، لدروس التّاريخ الإنسانيّ المُدَوَّن ، الذي لم يسجِّل حالة نجاحٍ واحِدة لِحَلِّ الصِّراعات المُماثِلة مع المشاريع الاستِعمارِيّة الاستيطانيّة على أساس تقاسم الأوطان بين أصحابها الأصليّين والمُسْتَوطنين المحتلين . وتغافُله عن أنَّ هذا الكيان الغريب ببنيته الاستيطانيّة الأجنبيّة وطبيعته الإجلائيّة - الإحلالِيّة ، إنّما يُشَكِّل النَّقيضَ لفلسطين وسُكّانِها الأصليّين ، كما أوضح بِجَلاءٍ مُؤسِّسه ورئيس وزرائه الأوَّل ديفيد بن غوريون بقوله "إنَّ شرطَ قِيام إسرائيل هو تدمير فلسطين" .
وعليْه ، قَدْ لا نُغالي القَوْلَ بأن المُحاوَلاتِ الاسرائيلية والغَرْبيّة لاستكمال تَغييب النَّقيضِ الفلسطيني قد تسارَعَت في زمن التَّسوِيَة السِّياسِيّة وانحراف البُوصلة الفلسطينيّة باعْتِراف مُنظّمة التّحرير الفلسطينيّة بِحَقّ المُسْتَوْطِنين في العَيْشِ الآمِنِ المُسْتَقِرِّ فوق أنقاضِ الشعب الفلسطيني في الجُزْءِ المُحْتل عام 1948
( 78% من مساحة فلسطين التّاريخِيّة ) لإقناعِهِم بالاكْتِفاء بهِ والانْسِحاب من بقِيّة الأجزاء التي جَرى احْتِلالها لاحِقاً في عُدْوان حزيران عام 1967 (22%) لإقامة دولة فلسطينيّة عليها وإنهاء الصِّراع .
فَبَعْدَ أن اطمَأنَّ الاسرائيليون وحلفاؤهم الغربيّون إلى التّسليم الفلسطيني بسِيادَةِ قانون الغاب وموافقنهم ، بذلك ، على تقاسم الوطن مع المُحْتَلّين وفقا للأقدَمِيّة الزَّمنيّة للاحتلال ، وانخراطهم في عَمَلِيّةٍ سياسيّة مُتَدَرِّجَةٍ مفتوحة النِّهايات ، وموافقتهم على نَزْعِ شرعيّة كفاحِهِم التّحرّري دون ضمانات حتى بوقف الاستيطان وإنهاء الاحتلال للجزء المُحتل عام 1967 وإقامة الدَّولة الفلسطينيّة عليْها. فقد وجدوا في ذلك فُرْصَة تاريخيّة غير مسبوقَةٍ لاستكمال مَشْرُوعِهِم الاسْتيطاني الإجْلائي -الإحلالي ، فكَثَّفوا سياساتِ التّهويد في الجليل والنّقب ، واستأنفوا إجراءات التَّطهير العرقي بِحَقّ مُواطني إسرائيل من فلسطينيّي عام 1948 ( 1.47 مليون يمثلون خمس السّكّان ) ، وأقَرّوا حُزْمَةً من القوانين العُنْصُرِيّة ضِدَّهُم .
ثُمَّ سارَعوا إلى تقويض أيّة فُرَصة لقيام الدَّوْلة الفلسطينيّة في الأراضي التي تمّ احْتِلالها عام 1967 ، فأمْعنوا في عزل قطاع غزّة الصّغير بمساحته ( 1.4% من إجمالي مساحة فلسطين التاريخيّة) والمُكْتظ بسكّانه( 29.7% من إجمالي الفلسطينيّين داخل الوطن المحتل و39% من سكان الجزء المحتل عام 1967، ثلثيهم من اللاجئين) وأعادوا الانتشار خارجه، وحاصروه وشنّوا حروب إبادة مُتَتالِيَةٍ ضِدّ سُكّانِه العُزَّل سَعْياً لِكَسْرِ اسْتِعْصائِهِم على الاسْتِسْلام .
وسَرَّعوا إجراءات أسْرَلة القُدس بمُحاصَرة الوجود الفلسطيني جُغْرافِيّاً وديمُغْرافِيّاً ، والقضاء على رموز الحَضارة العربيّة المسيحيّة والإسلاميّة فيها ، وواصلوا تنفيذ مُخَطّطاتِهِم لتهويد الضّفّة الغَرْبِيّة ، فاقتطعوا مناطق ج التي تشكِّل نحو ثلثي مساحة الضّفّة الغربيّة وحظروا أيّ نشاطٍ فلسطينيٍّ فيها ، وقسّموا مناطق التَّرَكُّز السُّكّاني الفلسطيني إلى كانتوناتٍ أحاطوها بجدر فصلٍ عٌنْصُرِيّ ، ونشروا المُسْتَعمرات الاستيطانيّة حولها لمنع توسّعها وللحيلولة دون تواصلها السّكاني والإسكاني . وسلّحوا المُسْتَوطنين ووَفَّروا لهم الحِمايَة والسَّكن والعَمَل والرِّعاية التَّعليميّة والصِّحِيّة والدَّعم المادّي والإعفاءات الضّريبيّة ما جَعَلها أكثر المناطق جذبا ، فتضاعف عدد المستوطنات لِيَصِل في مطلع العام 2016 إلى نحو 184 مُسْتَعْمَرَة استيطانية، و171 بُؤرة استيطانية ، و26 موقع استيطاني و93 مبنى مستولى عليه كليا أو جزئيا ، وزاد عدد المستوطنين اليَهود بنحو ثلاثة أضعاف ليبلغ نحو 620 مستوطن وفقا للبيانات الإسرائيليّة ، ينمون بمعدَّل سنويٍّ يزيد بأربعة أضعافٍ معدّل النّموّ السُّكّاني الإسرائيلي ، ويُخَطّط أن يَصلوا إلى نحو مليون مُسْتَوطِن عام 2020 .
فإذا كانت هذه ثِمار الوَاقِعِيّة السّياسِيّة التي انتَهَجَها جيلنا المُخَضْرَم ، فلا شكّ أننا قد ارتكبنا خطأ جوهَرِيّاً في الفكر والسّلوك والأداء يتوَجّب علينا الاعتِراف به والَّسَّعْي لٍلإسْهام في تصْحيحه ، بالتَّصَدّي بدايَةً لِنَهْج التَّخْويف الذّاتي والكَفِّ عن التَّذَرُّعِ باختلال موازين القُوى ، والاسْتِعانة بِحقائِقِ التّاريخ الإنسانيّ عُموما وتاريخ فلسطين الحديث خصوصاً ، لدَحْضِ منطق النّخب الفلسطينيّة والعربيّة التي ما تزال تتذَرّع بالواقعيّة السِّياسيَّة ، وتُرَوِّج لإمكانيّة التّعايش مع اسرائيل.
فهل كان يمكن للشّعب الجَزائري أن يتحرر ويهزم الاسِتعمار الاستيطاني الفرنسي ، أو للشّعب الفيتنامي مواجهة الإمبراطوريّة الأمريكيّة وهزيمتها ، أو لشعبِ جنوب إفريقيا إنهاء نظام الفصل العنصري لو اهتَزَّت قناعاتهم بغلبة ميزان الحقوق على موازين القوى ؟؟
بل هل يُمْكِن لِمُنَظِّري الواقِعِيّة السِّياسِيّة من الفلسطينيّين والعرب إطلاعِنا على ماهية الواقِعِيّة السّياسِيّة التي احْتَكَم إليها المشْروع الصَّهيوني ذاته قبل نَحْوِ قرنٍ ونيِّف ، عندما بدأ بِفِكْرَةٍ استعماريّةٍ غربيّةٍ مُخْتَلَقَةٍ ترْتَكِزُ على الأساطير وتَزْييفِ التّاريخ ؟؟ ألم تكُن هذه الفِكْرة - آنذاك - محْضُ خيالٍ لعَدَم ارْتِكازِها إلى واقعٍ تاريخيٍّ أو طوبوغرافيٍّ أو جيو- سياسيٍّ أو ديموغرافيّ ، ولافتقارِها إلى أيِّ منْطِق إنسانيّ أو أساس أخلاقيّ أو قانونيّ أو حتّى مُبَرِّرات سِياسِيّة ، إذ كانت غالبيّة النُّخَب العربيّة "الثَّوْرِيّة "في تَحالفٍ طَوْعِيٍّ وثيقٍ مع الغَرْب الاسْتِعماري في حرْبِه للاستيلاء على إرث الامبراطوريّة الإسلاميّة العُثْمانيّة ما أسْهَمَ في تسْريعِ تَهاويها ؟؟
أين تَكْمُنُ الواقِعيّة السّياسِيّة عندما قَرّرَ الغرب الليبرالي مُخالَفَة دَساتيره التي تفصل الدّين عن السياسة ، وسعى ، رَغْمَ ذلك ، إلى إقامة كيانٍ استعماريٍّ استيطانيٍّ أجنبيٍّ صغيرٍ وهجين في فلسطين على أساسٍ دينيٍّ ، وسطَ مُحيطٍ عربيٍّ وإسلاميٍّ واسِعٍ مُمْتدٍّ ومُتجانسٍ حضارِيّاً ؟؟
ما هي الواقِعِيّة السِّياسيَّة التي اسْتَنَدَت إليها الحَرَكَةٌ العِلمانِيّة الصّهيونِيّة عندما اسْتَدْعَت روابط دينيّة حصْرِيَّةٍ لليهود واسْتَهْدَفت اقْتِلاعهم من أوطانِهم الأصْلِيّة ودَفْعهم للاستيطان في الأراضي الفلسطينيّة المُقَدّسة لدى أتباع الدِّيانات السّماوِيَّة الثّلاث ، والمأهولة بسُكّانها الأصلِيّين من كافَّة المُعْتَقَداتِ الذين يعيشون فيها لآلاف السِّنين الممتدّة ؟؟
أين تَكْمُن الواقِعيّة السِّياسِيّة في إكْسابِ العقيدَةٍ الدّينِيَّة اليَهودِيّة حَصْريّاً بُعْداً قَوْمِيَّاً يُناطُ إحياءَه بِدايَةً باليَهودِ الأوروبيّين / الأشِكناز/ لإقامة "الوطن القومي اليهودي"في فلسطين ، رغم وُجود آلاف اليَهود من سُكّان فِلسطين والدُّول العربيّة والإسلاميّة المجاوِرة /السَّفارديم/ ، الذين يُشَكِّلون مُكَوِّناً أصيلا من نسيج شُعوبِ المنطقة العربيّة وحضارتها ؟؟
أيْنَ كانت الواقِعيّة السِّياسِيّة عندما أصْدَرَ بلفور وعده بإقامةِ كيانٍ قوميٍّ لِليَهود في فلسطين في وقتٍ لم تَكُنْ فيه أعداد طلائعهم من المُسْتوْطنين الذين وفدوا إليها في إطار التَّوسُّع الاستعماري الغربي لا تتجاوز بِضْعة آلاف ، ولم يزد عددهم عِنْدَما عُهِدَ للانْتِداب البريطاني تنفيذ الوعد عن 67 ألفاً شكَّلوا أقلِّيَّة لا تتجاوز 10% من إجمالي سكان فلسطين آنذاك . بل ولم تَكُنْ المَشْروعاتِ الاقْتِصاديّة التي أقاموها جاذبة لاهْتِمام أثرياء اليهود الغربيّين لانخفاض جَدْواها الاقتصاديّة ، ولم يَكُنْ مُعْظَم يهود العالم يُؤيّدون فِكْرَة الحَرَكة الصّهيونيّة النّاشِئة حول القَوميّةٍ اليهوديّة واعتبروها خطراً عليْهم ، ورأت غالبيتهم أن اليهودية عقيدة دينيّة وعارضوا فكرة إنشاء دولةٍ قومية لليهود ، ورأوا أن ذلك سَيُفضي إلى مَنْعِ انْدِماج يهود العالم ويجعلهم غُرَباء في أوطانِهِم الأصليّة ، وأنَّه سَيَجْلب نكبة على جميع اليَهود في العالم . فضلا عن أنَّ مُؤسِّسي الحَرَكَة الصّهيونيّة أنْفُسَهُم قد احْتاروا بدايَةً في اختيار موقع الدَّولة اليهودِيّة المُراد إنْشائِها ، فتعددت الأماكن المقترحة لإقامتها واشتملت على مواقِع عدّة في قارّات ثلاث كالأرجنتين وأوغندا وقبرص والعراق وشبه جزيرة سيناء المصرِيّة وليبيا وجزيرة رودوس ، إلى أنْ حَسم الغَرْب الاسْتِعماريّ أمر إقامتها في فلسطين فأقَرَّ المُؤتمر الصهيوني السَّابع عام 1905 ذلك ، وأكد في قراراتِه على تخلي الحركة الصّهيونيّة عن أيّة مشاريع استعماريّة لا تشمل فلسطين والأراضي المجاورة لها .
وبالرَّغم من كُلِّ ذلك ، وجَد المَشْروع الصَّهْيوني طريقه للتّنفيذ ، فتمَّ إقامة الكِيانِ الاسْتيطانيّ الصّهيونيّ في فلسطين في زَمَنٍ قياسيٍّ (خمسين سنة) ، بِكُلفة ضئيلةٍ نسبِيّاً ، وبالتَّزامن مع بِداية أُفولِ عَهْد الاسْتعمار الأجْنبيّ المُباشر .
وعليْه ، فإذا كان حُدوثُ ذلك مُمكنا في الواقِع ، فلماذا إذن يَتَعَذَّرُ في أذْهان بعض النُّخب الفلسطينيّة والعربيّة إنْجاز المَشروع التّحرّري الفلسطيني ، الذي ينطلق من واقِع قائِمٍ صلب تاريخيٍّ وطوبوغرافيٍّ وجيو- سياسيٍّ وديموغرافيّ ، حيث ما يَزال يعيش في فلسطين التّاريخيّة نحو 6.22 مليون فلسطيني يَتَساوون مع عدد اليهود 6.251 مليون ، يُمَثِّلون نَحْوَ نِصْفِ الشّعب الفلسطيني الذي يُقيم نِصْفَه الآخر من اللاجئين المطرودين من ديارِهِم على بُعد بضعَةِ كيلومترات في الدّول العربيّة المجاورة ، وما تزال ذاكِرتهم الحيّة تَعجّ بتفاصيل ديارهم ومُمْتلكاتِهِم التي تمَّ اقتلاعهم منها بالقُوّة وما يزالون يحتفظون بمفاتيحِها ووثائقِ مُلكيّتها ويتأَهَّبون للعَوْدَة إِليْها ؟؟
لماذا يَستحيل في أذهان البعض تحقيق المَشْروع التَّحَرُّري الفلسطيني الذي يَرْتَكِز إلى مَشْروعيّةٍ تاريخِيَّةٍ وقانونِيَّةٍ وأخلاقيّة ، وتُعزِّزه فِكْرَة إنْسانِيّة تَحرُّريّة ، ويَتَماثل مع رُوح العَصْر وقِيَمِه ، ويواكب اتجاه تطوّر حركة التّاريخ ، وينطلق من الحُقوق الوطنيّة الثابتة للشّعوب غير القابلة للتّصرّف ، ويحظى بدعم الشّعوب العربيّة والإسلاميّة وبمساندة وتعاطف شعوب العالم أجمع . وبالإضافة إلى كُلِّ ذلك ، يُبدي الاسْتِعْداد الكامل للتّسامُح والمُصالحة التّاريخيّة والجاهزيّة للاعتراف بِحُقوقٍ مُكْتَسَبَةٍ لِيَهود إسرائيل حَصْرِيّا (6.251 مليون ) وليس عموم اليهود ، باعتبارهِم مِثْله ، ضحايا المَشْروع الغربيّ الصّهيونيّ ، وذلك عند تخليهم عن الفِكْر الاستعماري الاستيطانيّ الانْعِزالي العُنْصري ، وقَبولهم بالعَيْشِ المُشْترك مع أصْحابه الأصليين في الوطن الواحد بتساوٍ تامٍّ أمام القانون ؟؟
ألا يَسْتَدْعي ذلك التَّساؤل ومساءلة نُخَبِنا المُتَذَرِّعَة بالواقِعِيّةِ السِّياسِيّة ، كيْف يكونُ المَشروع الصّهيوني بِخَصائصه وظروفه مُمْكِناً ، وكيْفَ باتَ واقِعاً ؟؟
ولماذا أصْبَحَ المَشْروع التّحرّري الفلسطيني بِسِماتِه وظروفه وفُرَصِه وآفاقه مُسْتحيلاً ، وكيف يُمْكِن أن يكون مُتعذّرا ؟؟
أما آن الأوان لِجيلِنا المُخَضرم أنْ يصْحوا ويَرقى إلى مُسْتَوى تَضْحِياتِ الجيل الفتِيّ والمساهمة في تحديد ماهيّة التَّغيير الفلسطينيّ الواجب في الفِكْرِ والسّلوك والأداء؟.