ليس من الصعب معرفة ماذا في جعبة رايس في جولتها الجديدة؟ فالزيارة تأتي عشية تطبيق خطة فك الارتباط، التي تسعى الادارة الاميركية الى انجاحها بعد ان فرضتها اللعبة الوحيدة في المدينة، وصورتها باعتبارها تنازلاً تاريخياً كبيراً تقدم عليه اسرائيل، ويجب تشجيعها على الاقدام عليه ولو عن طريق دفع ثمن هذه الخطة أكثر من مرة قبل تطبيقها.
الاسباب التي دفعت رايس للزيارة تعود الى عدة اسباب اولها: التدهور الخطير الذي شهدته المنطقة بعد تصاعد العدوان العسكري الاسرائيلي الى درجة العودة الى سياسة الاغتيالات والاقتحامات والغارات والاغلاقات واعلان حظر التجول وتشديد الحصار وتكثيف حملات الاعتقال ما ينذر باحتمال انهيار التهدئة، وما جعل احتمال انهيار التهدئة واردا الرد الفلسطيني على الخروقات الاسرائيلية من خلال سلسلة من العمليات اهمها عملية نتانيا، واطلاق مئات قذائف الهاون والصواريخ على المستوطنات المقامة في قطاع غزة وعلى مدينة سديروت داخل اسرائيل.
فرايس تريد تثبيت الهدنة والحفاظ عليها، لان انهيارها يحمل في طياته امكانية الاطاحة بخطة فك الارتباط، واعلاناً مدوياً بفشل السياسة الاميركية، التي روجت كثيراً ان محورها يقوم حالياً على التوصل الى اتفاق سلام للصراع الفلسطيني-الاسرائيلي.
ثاني الاسباب التي دفعت رايس الى الاستعجال في الزيارة يتمثل في زيادة حدة التوتر داخل اسرائيل على خلفية الصراع على خطة فك الارتباط بين مؤيديها ومعارضيها. وقد بلغ هذا الصراع الى حد قيام عدد متزايد من جنود وضباط جيش الاحتلال برفض اطاعة الاوامر الصادرة اليهم وتتعلق بتنفيذ الخطة. وما يزيد الامر خطورة، ان ظاهرة رفض اطاعة الاوامر وجدت تأييدا واسعا في اوساط الشبيبة داخل اسرائيل. ففي استطلاع نشرته جريدة يديعوت احرونوت يوم الجمعة الماضي ايد 64% من الشبيبة الذين تبلغ اعمارهم 15-18 عاماً رفض اطاعة الاوامر في حين ايد تنفيذها29% فقط.
ما سبق لا يعني ان اسرائيل امام عصيان مدني او انقلاب او حرب اهلية، ولكنه يدل على وجود اجواء قد تؤدي الى اعمال عنف واغتيالات تطال رئيس الوزراء او الوزراء والقادة العسكريين والامنيين المتحمسين لتطبيق خطة فك الارتباط.
وعلى أهمية المعارضة الاسرائيلية للانسحاب من غزة واخلاء المستوطنات فيها، إلاّ ان هدف المعارضة الأكبر هو جعل خطوة الانسحاب والاخلاء اذا تمت خاتمة المطاف من خلال تقديم بروفة تعطي رسالة للاسرائيليين والفلسطينيين والعالم كله مفادها: اذا قامت اسرائيل ولم تقعد او تكاد ان تدخل في حرب اهلية داخلية بسبب اخلاء مستوطنات غزة التي لا يقطن بها سوى الاف قليلة فماذا سيحدث اذا فكر احد بمطالبة اسرائيل الخروج من مستوطنات الضفة التي يقطن فيها أكثر من 400 الف مستوطن. بل ماذا سيحدث اذا طالب احد اسرائيل بالانسحاب من المستوطنات المعزولة المتناثرة والمقامة خارج التكتلات الاستيطانية الكبيرة. فهدف المعارضة الاسرائيلية جعل غزة اولا واخيرا. على الاقل لسنوات كثيرة قادمة. ولذلك تحمل رايس دعما قويا للحكومة الاسرائيلية وهدية ثمينة جديدة تتمثل بالدعوة الى عقد مؤتمر دولي بعد تطبيق خطة فك الارتباط هدفه الرئيسي تطبيع العلاقات العربية مع اسرائيل، فالحكومة الاسرائيلية تطمع في تطبيع علاقاتها مع الدول العربية الخليجية وفي شمال افريقيا.
ثالث الاسباب التي دفعت رايس الى المسارعة في زيارة المنطقة الاحداث المؤسفة التي شهدتها غزة بعد أكثر من جولة من الاقتتال الداخلي والطلب الذي تحمله رايس للرئيس الفلسطيني هو دعمه وتشجيعه على حد زعمها على مواصلة وتكثيف حربه ضد "الارهاب"الفلسطيني مقابل وعد غامض بأن تقوم الولايات المتحدة الاميركية بالعمل على تطبيق خطة خارطة الطريق بعد تنفيذ خطة فك الارتباط.
وبكل صراحة اذا لم تفتح خطة فك الارتباط للتفاوض وتم تغييرها بحيث تصبح فعلا جزءاً من عملية سياسية أكبر تشمل كافة الأراضي المحتلة العام 1967، فهي ستبقى كما ارادها شارون خطة مستقلة وبديلة عن خارطة الطريق وبالتالي ستصبح وصفة للصراع القادم.
اسرائيل تريد ان تغرق الاتصالات والمفاوضات القادمة مع الفلسطينيين بعد تطبيق خطة فك الارتباط في البحث في فتح المطار وبناء الميناء والحدود والمعابر وتنقل الافراد والبضائع بين الضفة وغزة وبينهما وبين اسرائيل والخارج. وكل التقدم الذي يتم الترويج له فيما يتعلق بالانسحاب من غزة لم يرق الى مستوى ما هو قائم قبل الانتفاضة الحالية.
لم تضع الفرصة تماما لجعل الانسحاب من غزة كاملا، بما يشمل السيطرة الفلسطينية الكاملة على الحدود والمعابر والميناء والمطار، وبما يضمن تواصل الضفة وغزة من خلال جعل الممر بينهما آمناً ومفتوحاً بصورة دائمة لتنقل الافراد والبضائع، وبما يجعل هذا الانسحاب جزءاً من خارطة الطريق.
ولكن هذا لن يحدث ما لم توافق اسرائيل على خارطة الطريق، كما هي وبصيغتها الرسمية.وما لم تقم الادارة الاميركية بالضغط على اسرائيل لدفعها للقيام بهذه الخطوة. وما لم تقم اسرائيل ولا اميركا بأي شيء قادم نكتفي بتقديم المطالب ولا نقلب الطاولة اذا لم تنفذ ونتعاطى في النهاية وبعد ممانعة مع ما يعرض علينا، وحجتنا في ذلك ليس "بالإمكان أبدع مما كان"و"إنقاذ ما يمكن إنقاذه".