إذا كان وعد بلفور قد مرّ فإن وعد ترامب لن يمرّ
كيف السبيل إلى ذلك؟
كلمة رئيس مجلس أمناء مركز مسارات د. ممدوح العكر، في افتتاح المؤتمر السنوي السابع للمركز.
الخطر المحدق خطر جسيم، يستهدف بشكل واضح تصفية القضية الفلسطينية، وعناصر هذا الخطر المحدق أصبحت واضحة وضوح الشمس، سواء ما كان منها خارجيًا أو ما هو داخلي وذاتي.
أهم ما في عناصر الخطر الخارجية أن الولايات المتحدة الأميركية انتقلت من موقع المساند والحليف والحامي والمحامي لإسرائيل إلى موقع رأس الحربة في هذه الهجمة التي تستهدف قضيتنا.
ومتغيرٌ آخر في هذا السياق، هو دخول دول عربية معينة في الخليج (باستثناء الكويت وعُمان، وربما قطر) في تحالف معلن مع إسرائيل، وأيُّ إسرائيل؟ إسرائيل التي وصلت إلى ذروة توحش مشروعها الصهيوني وبلوغِه أعلى مراحله كمشروع استعمار استيطاني بتجلياته الأبارتايدية. وهكذا فإن هذه الدول الخليجية المعينة تذهب إلى ما هو أبعد من خطوات التطبيع الذي سلكته وتسلكه دول عربية أخرى، بل حتى أبعد من اتفاقات السلام التي وقعتها دول عربية محددة لتخرجها عمليًا وواقعيًا من معادلة الصراع مع إسرائيل.
على أن أهم ما يجب أن يقلقنا هو وضعنا الداخلي والذاتي. فالوجه الآخر للخطر المحدق بنا أنه يداهمنا في الوقت الذي يعاني فيه نظامنا السياسي الفلسطيني، قيادةً ومؤسسات (شكلًا ومضمونًا، وبدون استثناء)، من أسوأ حالات ضعفه وتفككه وعجزه، ولا تشكل مأساة أو مهزلة الانقسام إلا واحدة من مظاهر هذا التفكك والضعف وهذا العجز عن الارتقاء إلى مستوى تحديات الخطر المحدق. وعلينا ألا نختزل أزمة نظامنا السياسي بمسألة الانقسام وحدها. ولعل ما جرى من مداولات ومن مشاهد وقرارات خلال أيام انعقاد المجلس الوطني الأخير تقدم دليلًا على مدى العجز الذي وصل إليه هذا النظام، وكأننا كنا بحاجة إلى مثل هذا الدليل الإضافي!
إن أبرز أوجه هذا العجز هو غياب الرؤية وغياب الإرادة لسلوك مسار غير المسار الذي سرنا فيه لأكثر من ربع قرن رغم المؤشرات المبكرة على عقم هذا المسار والنتائج المدمرة التي أدى ويؤدي إليها يوميًا: أعني مسار الحل التفاوضي كسبيل أساسي لصراعنا مع المشروع الصهيوني.
هذا مع أن تجارب حركات التحرير تعلمنا أن لا مكان للمفاوضات في الصراع مع الأنظمة الاستعمارية، إلا بعد إحراز تغير في ميزان القوى يجبر العدو على الاستجابة لمطالب حركة التحرر.
على مر تجارب التاريخ، لم يرضخ أي مستعمر لمطالب وحقوق حركات التحرير إلا بعد أن تصبح كلفة الاحتلال أكبر من قدرته على احتمالها. وأي تفاوض قبل ذلك يحول حركات التحرير إلى أيتام على موائد اللئام، ولن ينالها سوى الفتات. فكيف الحال بتفاوضٍ مع نظام استعمار استيطاني يشكل أعتى وأدهى نماذج الاستعمار الاستيطاني التي عرفها تاريخ البشرية. فبأي منطق واصلنا التمسك العنيد بالمفاوضات، وبأي منطق ما زلنا نؤكد استعدادنا للمفاوضات؟
قبل أن ننجز شرط جعل الاحتلال مكلفًا له ولا طاقة له على الاستمرار في تحملها رغم أننا ندرك ونكرر من فوق أعلى المنابر الدولية والوطنية أننا تحت احتلال بدون كلفة؛ للآن لم أجد تفسيرًا لهذا التمسك العنيد بالمفاوضات سوى ما ورد في الرسائل المتبادلة بتاريخ 9/9/1993 بين الرئيس الراحل ياسر عرفات وبين رابين رئيس الوزراء الإسرائيلي آنذاك، أي قبل أربعة أيام من يوم التوقيع المشؤوم على اتفاقات أوسلو، وحمل تلك الرسائل المتبادلة هولست وزير خارجية النرويج. علمًا أن رابين أصر على استلام رسالة الالتزامات الفلسطينية موقعةً من الرئيس ياسر عرفات كشرط من رابين لمضيّه قدمًا في التوقيع على اتفاق اوسلو في حديقة البيت الأبيض. فبعد الالتزام الأول الذي نصّ حرفيًا بأن منظمة التحرير تعترف بحق إسرائيل بالوجود (بالوجود، وليس بالعيش) بسلام وأمن، ثم يأتي الالتزام الثالث في رسالة الرئيس ياسر عرفات بالنص الآتي: "تُلزم منظمة التحرير نفسها بعملية سلام الشرق الأوسط، وبالحل السلمي للنزاع بين الجانبين، وتلتزم بأن المسائل العالقة حول الوضع النهائي سيتم حلها من خلال المفاوضات".
لا يمكن التصدي للخطر المحدق بقضيتنا بالتمسك بالمفاوضات. يجب العمل على قلب معادلة "احتلال بدون كلفة"إلى برنامج عمل لرفع كلفة الاحتلال وليس إبقاؤه مجرد شعار فقط.
إن أهم مكونات برنامج عمل المسار البديل أصبحت واضحة المعالم، والمهم الالتزام الفعلي بها، وهي:
- المقاومة الشعبية ضد الاستيطان والمستوطنين وجيش الاحتلال، لتصبح هذه المقاومة نمط حياة على الصعيد الرسمي قبل الشعبي.
- الالتزام ودعم حركة المقاطعة وسحب الاستثمارات وفرض العقوبات (BDS).
- الجدية في متابعة الجرائم الإسرائيلية لدى محكمة الجنايات الدولية (ICC).
- خطوات مدروسة وتدريجية للخروج من اتفاق/بروتوكول باريس الاقتصادي.
- العمل السياسي والديبلوماسي على مختلف المستويات.
يجب أن تتوفر لدى نظامنا السياسي، بكل مكوناته، قيادةً ومؤسساتٍ، الإرادة الواضحة والقوية لتغيير المسار على هذا النحو وبهذه الرؤية. وهذا يشكل الشق الأول من متطلبات التصدي للخطر المحدق بقضيتنا فيما يتعلق برفع كلفة الاحتلال.
أما الشق الثاني فيتعلق بما يمكن إجماله بتوفير كل متطلبات و مقومات الصمود وتعزيز عناصر المناعة الذاتية لمجتمعنا وأهمها:
أولًا: إنهاء الانقسام بأي ثمن.
لن نتمكن من التصدي للمخاطر المحدقة بنا ونحن منقسمون. هذه بديهية لا نزال نمعن في تجاهلها. ولا نزال نخلق المبررات والحجج الفارغة لتبرير الإمعان في إدامة وإدارة الانقسام، وفي التفنن في أساليب زيادة معاناة شعبنا المحاصر في غزة، خاصة أنه قد أصبح واضحًا وجود شرائح ومصالح منتفعة من استمرار حالة الانقسام وغير عابئة بالمصلحة الوطنية العليا إذا كانت تعرف معنىً للمصالح الوطنية العليا.
إن أكثر ما يثير الاستفزاز في هذا السياق متاهة أو أسطورة "تمكين الحكومة". عن أية حكومة يتحدثون، وعن أي تمكين؟ أليس الأوْلى أن نمارس الضغط، كل الضغط على سلطات الاحتلال لتمكين الحكومة في رام الله من ممارسة كامل صلاحياتها في الضفة الغربية؟!. ألم يستمعوا إلى الرئيس "أبو مازن"يكرر أننا سلطة بدون سلطة؟ ألم يستمعوا لما قاله د. صائب عريقات مؤخرًا بأن وزير الجيش الإسرائيلي هو الرئيس الفعلي للسلطة، وأن منسق شؤون "المناطق"هو رئيس الوزراء الفعلي لهذه السلطة. فلتكفّوا بربكم عن حديث تمكين الحكومة هذا.
لا يمكن لنا أن نتصدى للمشروع الصهيوني ولا للخطر المحدق بنا لتصفية قضيتنا بدون صيغة ونموذج الجبهة الوطنية العريضة. ولا يمكن بناء الجبهة الوطنية العريضة إلا على أساس الشراكة الحقيقية والصادقة من كل أطرافها: شراكة حقيقية في التمثيل في كل مؤسسات منظمة التحرير، وشراكة حقيقية في كافة القرارات الوطنية. لا مكان للهيمنة هنا أو هناك. لا مكان للحزب القائد والفصيل القائد في فلسطين طالما بقيت فلسطين تحت الاحتلال وطالما كنا في مرحلة تحرر وطني.
لا يخالجني أدنى شك أن الخطوة الأولى التي تدل على مدى الجدية، وعلى مدى الشعور بالمسؤولية الوطنية والتاريخية لإنهاء الانقسام هي بالمبادرة إلى الدعوة لعقد الإطار القيادي الموحد لمنظمة التحرير. فهذا هو التمكين المطلوب، تمكين الإطار القيادي المؤقت لمنظمة التحرير على طريق إعادة بناء المنظمة وإعادة الاعتبار لها.
ثانيًا: ترشيد أوجه الإنفاق خاصة مع المحدودية المتزايدة لمصادر الدعم الخارجي، بدءًا باتباع سياسة تقشف حكيمة تبدأ بالكف عن الانغماس في الإنفاق على رموز وشكليات وطقوس الدولة، متناسين أننا بلد تحت الاحتلال، ولسنا أكثر من حكم ذاتي محدود الصلاحيات، ولا نملك ترف التصرف كأننا دولة مستقلة كنوع من خداع الذات، بينما لا نملك من الدولة إلا طقوسها، ويقضم الاستيطان الصهيوني الأرض من حولنا ومن تحت أرجلنا.
خداع الذات الذي نمارسه لا يقربنا من حلم الاستقلال والدولة المستقلة، بل يجعله أبعد منالًا.
وفِي سياق ترشيد سياسة الإنفاق، لا بد من إعطاء الأولوية لدعم التعليم، بشقيه الأساسي والتعليم العالي، ودعم الصحة، وكل ما يتعلق بشؤون التنمية المجتمعية.
ولا يجوز أن نستمر في تخصيص الحصة الكبرى من الموازنة العامة لقطاع الأمن. وهذا في حد ذاته مفارقة كبرى من مفارقات حال نظامنا السياسي. فلقد أنشأنا أجهزة أمنية بعديدٍ من عشرات الألوف، وخلقنا مناصب لعشرات إن لم يكن المئات من الجنرالات، ويستنزف قطاع الأمن حوالي 27-30% من موازنتنا السنوية، لتكون درعًا يحمينا من الاحتلال ومستوطنيه. لكن الجانب الآخر لهذه المفارقة والأشد إيلامًا، عدا عن حصتها الكبرى في الإنفاق، أننا ما زلنا نمارس التنسيق الأمني رغم قرارات نجترها اجتماعًا بعد اجتماع! هل يجوز، وهل يليق بأجهزتنا الأمنية الوطنية أن تسمح لنفسها بممارسة التنسيق الأمني مع الاحتلال؟!
ثالثًا: إعادة الإعتبار لقضاء مستقل وعادل ونزيه، فلا يمكن الحديث عن تعزيز المناعة الذاتية لمجتمعنا، ودعم مقومات صموده من دون إنقاذ القضاء من المآل الذي آل إليه.
رابعًا: احترام الحريات العامة،وخاصة حرية التعبير والرأي، والكف عن تقييد حرية الصحافة بكافة أشكالها، وإعادة الحوار لتعديل قانون الجرائم الإلكترونية سيئ الذكر.
خامسًا: احترام الدور الأساسي للمجتمع المدني ومؤسساته الأهلية، فالمجتمع، أي مجتمع، إنما يقوم على ثلاثة أعمدة أو قطاعات: القطاع العام أو القطاع الحكومي، والقطاع الخاص، والمجتمع المدني أو القطاع الأهلي. والتضييق على مؤسسات المجتمع المدني ومؤسساته الأهلية تحت شتى الأساليب والمسوغات والحيل القانونية هو سمة من سمات الأنظمة الشمولية والبوليسية والدكتاتورية. وتعتز فلسطين بالدور التاريخي الوطني والطليعي الذي قامت به المؤسسات الأهلية طوال فترة الاحتلال الإسرائيلي المباشر حتى قيام السلطة الوطنية. وإذا كان جزءٌ من المجتمع المدني قد مر بمرحلة من التعثر بسبب التشوهات التي أصابت المجتمع الفلسطيني وحركته الوطنية إثر اتفاقات أوسلو إلا أنه ما لبث أن استعاد عافيته وحيويته وبوصلته.
وتزداد أهمية دور المجتمع المدني كأحد المقومات الأساسية لتعزيز مناعة وصمود شعبنا ومجتمعنا في إطار أية خطة نهوض وطني نحن بصددها لمواجهة المخاطر المحدقة بالقضية الفلسطينية.
نحن الآن أحوج من أي وقت مضى لمجتمعنا المدني الحيوي والمنطلق بروحه وفلسفته المتميزة وبأجندته الوطنية التحررية التنموية؛ ليمارس دوره الأصيل في تعزيز قدرات مجتمعنا على الصمود، ومواجهة المخاطر المحدقة، وليس مجتمعًا مدنيًا مقيّدًا، أو ملاحَقًا من أجهزة الدولة.
سادسًا: إن مسؤولية أية قيادة تاريخية حكيمة، وخاصة عندما تكون هذه القيادة آخر الرموز التاريخية لحركة التحرر الوطني لشعبها،أن تكرس جل جهدها لتسهيل مخاض ولادة قيادة جديدة،لتنقل الراية من جيل إلى جيل، وتقدم لها خلاصة دروس تجربتها، أين نجحت وأين فشلت، وتوفر لها كل مقومات القدرة على شق المسار الجديد المنشود الذي اتضحت ضرورته ومعالمه منذ وقت ليس بالقصير. ومن دون القيام بهذه المسؤولية التاريخية تجاه شعبها وقضيته فكأنها تدير ظهرها للتاريخ وتقول: من بعدي الطوفان!
وأختم أخيرًا بالتذكير بالدور التاريخي للمثقف، كما صاغها الفيلسوف الفرنسي فوكو، وكما عبر عنها إدوارد سعيد مرارًا: دور المثقف هو (To speak Truth to Power). فالمسؤولية التاريخية والوطنية للمثقف أن يقول الحقيقة (did) لصاحب القرار ولصاحب القوة والصولجان.
ومن قبل فوكو وإدوارد سعيد يعلمنا تراثنا الحقيقي والأصيل أن كلمة الحق أمام السلطان هي من أعظم الجهاد.